فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَاتَّقُواْ اللّهَ} أي: أن تعصوه بما هو أشد من الزنى خبثًا.
{وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أي: ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره؛ فقد خزي الرجل، وذلك من عراقة الكرم، وأصالة المروءة. و(تخزون) مجزوم بحذف النون، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة، وقرئ بإثباتها على الأصل.
{أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} أي: فيرعوي عن القبيح، ويهتدي إلى الصواب.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [79].
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي: حاجة؛ إذ لا نريدهن، وفي تصدير كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم، أي: والله لقد علمت، إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقًا وجازمًا بعدم رغبتهم فيهن، وأيد ذلك قولهم: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} استشهادًا بعلمه.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [80].
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي: بدفعكم قوة، بالبدن أو الولد: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي: عشيرة كثيرة، لأنه كان غريبًا عن قومه، شبهها بركن الجبل في الشدة والمنعة.
أي: لفعلت بكم ما فعلت، وصنعت ما صنعت.
تنبيه:
قال الإمام ابن حزم رحمه الله في الملل: ظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد» إنكار على لوط عليه السلام. ولا تخالف بين القولين، بل كلاهما حق، لأن لوطًا عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين. وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة، وأشد ركن. ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة الناس، فقد قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: من الآية 251] فهذا الذي طلب لوط عليه السلام. وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه تعالى. فكيف ينكر على لوط أمرًا هو فعله عليه السلام. تالله ما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبر أن لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد، يعني من نصر الله له بالملائكة. ولم يكن لوط علم بذلك. ومن اعتقد أن لوطًا كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد؛ فقد كفر، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر. وهذا أيضًا ظن سخيف؛ إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات، وهو دائبًا يدعو إليه، هذا الظن. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [81].
{قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} أي: إلى إضرارك بإضرارنا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} أي: بطائفة من آخره، أي: ببقية سواد منه عند السحر، وهو وقت استغراقهم في النوم، فلا يمكنهم التعرض له ولا لأهله. وقرئ: {فَأَسْرِ} بالقطع والوصل.
{وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} أي: لا ينظر إلى ورائه، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم: {إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} أي: من العذاب، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت فهلكت.
قال في الإكليل: فيه أن المرأة والأولاد من الأهل.
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} أي: موعدهم بالهلاك الصبح، والجملة كالتعليل للأمر بالإسراء، أو جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب، أو ذكرت ليتعجل في السير، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء، للتباعد عن موقع العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} [82].
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي: عذابنا: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي: فقلبت تلك المدن ونبتها بسكانها جميعًا: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} أي: طين متحجر، كقوله: {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: من الآية 33]، {مَّنضُودٍ} أي: يرسل بعضه في إثر بعض متتابعًا.
قال المهايمي: اتصل بعضه ببعض، ليرجموا رجم الزناة، بما يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [83].
{مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} معلمة عنده: {وَمَا هِيَ} أي: تلك الحجارة: {مِنَ الظَّالِمِينَ} أي: بالشرك وغيره: {بِبَعِيدٍ} فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها، وملابسون بها. وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وقيل: الضمير للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكة، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بـ: (البحر الميت) لأن مياهه لا تغذي شيئًا من جنس الحيوان، وبـ (بحر الزفت) أيضًا؛ لأنه ينبعث من عمق مقره إلى سطحه، فيطفو فوقه، وبـ (بحيرة لوط) والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئًا.
قال أبو السعود: وتذكير (بعيد) على تأويل (الحجارة) بالحجر، أو إجرائه على موصوف مذكر، أي: بشيء بعيد، أو لأنه على أنه المصدر، كـ: (الزفير) و(الصهيل). والمصادر يستوي في الوصف بها، المذكر والمؤنث. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي إِهْرَاعِ قَوْمِ لُوطٍ إِلَيْهِ لِلِاعْتِدَاءِ عَلَى ضَيْفِهِ وَسُوءِ حَالِهِ مَعَهُمْ {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} بَعْدَ ذَهَابِهِمْ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أَيْ: وَقَعَ فِيمَا سَاءَهُ وَغَمَّهُ بِمَجِيئِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعُهُ أَيْ عَجَزَ عَنِ احْتِمَالِ ضِيَافَتِهِمْ، فَذَرْعُ الْإِنْسَانِ مُنْتَهَى طَاقَتِهِ الَّتِي يَحْمِلُهَا بِمَشَقَّةٍ؛ ذَلِكَ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنَ اعْتِدَاءِ قَوْمِهِ عَلَيْهِمْ كَعَادَتِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ جَاءُوهُ بِشَكْلِ غِلْمَانٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شَدِيدُ الْأَذَى، مَرْهُوبُ الشَّذَى، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَصْبِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيِ الشَّدُّ فَهُوَ بِمَعْنَى مَعْصُوبٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَاصِبٍ، وَالْعَصَبُ بِالتَّحْرِيكِ أَطْنَابُ الْمَفَاصِلِ، وَمِنْهُ الْعِصَابَةُ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الرَّأْسُ.
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أَيْ جَاءُوهُ يُهَرْوِلُونَ مُتَهَيِّجَةٌ أَعْصَابُهُمْ، كَأَنَّ سَائِقًا يَسُوقُهُمْ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: هُرِعَ وَأُهْرِعَ بِالْبِنَاءِ فِيهِمَا لِلْمَفْعُولِ إِذَا أُعْجِلَ عَلَى الْإِسْرَاعِ، أَيْ حُمِلَ عَلَى الْعَجَلِ بِهِ اهـ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَكُونُ الْإِهْرَاعُ إِلَّا إِسْرَاعًا مَعَ رِعْدَةٍ مِنْ بَرْدٍ أَوْ غَضَبٍ، أَوْ حُمَّى. اهـ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ شَهْوَةٍ شَدِيدَةٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَشْيٌ بَيْنَ الْهَرْوَلَةِ وَالْعَدْوِ: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} وَمِنْ قَبْلِ هَذَا الْمَجِيءِ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَشَرُّهَا أَفْظَعُ الْفَاحِشَةِ وَأَنْكَرُهَا فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْوَضْعِيَّةِ، وَهِيَ إِتْيَانُ الرِّجَالِ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، وَمُجَاهَرَتِهِمْ بِهَا فِي أَنْدِيَتِهِمْ كَأَنَّهَا مِنَ الْفَضَائِلِ يَتَسَابَقُونَ إِلَيْهَا وَيَتَبَارَوْنَ فِيهَا، كَمَا حَكَى الله عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَ رَمْيِهِمْ بِالْفَاحِشَةِ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} 29: 29 فَمَاذَا فَعَلَ لُوطٌ وَلِمَ وَاجَهَهُمْ وَعَارَضَهُمْ؟ {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فَتَزَوَّجُوهُنَّ، قِيلَ: أَرَادَ بَنَاتَهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَأَنَّهُ سَمَحَ بِتَزْوِيجِهِمْ بِهِنَّ بَعْدَ امْتِنَاعٍ لِصَرْفِهِمْ عَنْ أَضْيَافِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بَنَاتَ قَوْمِهِ فِي جُمْلَتِهِنَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ فِي قَوْمِهِ كَالْوَالِدِ فِي عَشِيرَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ نِسَاؤُهُمُ الْمَدْخُولُ بِهِنَّ وَغَيْرُهُنَّ مِنَ الْمُعَدَّاتِ لِلزَّوَاجِ، يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ بِالزَّوَاجِ أَطْهَرُ مِنَ التَّلَوُّثِ بِرِجْسِ اللِّوَاطِ؛ فَإِنَّهُ يَكْبَحُ جِمَاحَ الشَّهْوَةِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَسَادِ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الطُّهْرِ فَلَا مَفْهُومَ لَهَا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَيَقُولُ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ:
إِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّذِي هَاجَتْ فِيهِ شَهْوَتُهُمْ وَاشْتَدَّ شَبَقُهُمْ أَنْ يَأْتُوا نِسَاءَهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْإِرْشَادِ النَّبَوِيِّ لِمَنْ رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هَاجَتْهُ فِيهَا رُؤْيَتُهَا.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ عليه السلام عَرَضَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الْمُجْرِمِينَ بَنَاتَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ كَمَا يَشَاءُونَ، وَمِثْلُ هَذَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ (19: 8) وَفِيهِ أَنَّهُمَا اثْنَتَانِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقَعَ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَيِّ رَجُلٍ صَالِحٍ فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَا يَصِحُّ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَطْهَرُ لَهُمْ، فَغَسْلُ الدَّمِ بِالْبَوْلِ لَيْسَ مِنَ الطَّهَارَةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى هَذَا الْفِعْلِ، بَلِ الذَّنْبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَكْبَرُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُنْكَرِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِيثَارًا لِلتَّجَمُّلِ الشَّخْصِيِّ، وَهُوَ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ قَوْلِهِ لَهُمْ بَعْدَهُ {فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} فَإِنَّ الزِّنَا لَيْسَ مِنَ التَّقْوَى بَلْ هُوَ هَدْمٌ لَهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: فَأَجْمِعُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ بَيْنَ تَقْوَى اللهِ بِاجْتِنَابِ الْفَاحِشَةِ، وَبَيْنَ حِفْظِ كَرَامَتِي وَعَدَمِ إِذْلَالِي وَامْتِهَانِي بِفَضِيحَتِي فِي ضَيْفِي، فَإِنَّ فَضِيحَةَ الضَّيْفِ فَضِيحَةٌ لِلْمُضِيفِ وَإِهَانَةٌ لَهُ. وَلَفْظُ الضَّيْفِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} ذُو رُشْدٍ يَعْقِلُ هَذَا فَيُرْشِدَكُمْ إِلَيْهِ؟
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} فَإِنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْنَا فِي دِينِكَ، أَوْ يَعْنُونَ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُمْ نِكَاحُ الذُّكُورِ مُسْتَشْهِدِينَ بِعِلْمِهِ بِهِ تَهَكُّمًا، أَوِ الْحَقُّ هُنَا الْحَاجَةُ وَالْأَرَبُ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَاجَةٍ أَوْ رَغْبَةٍ فِي تَزَوُّجِهِنَّ فَتَصْرِفَنَا بِعَرْضِهِنَّ عَلَيْنَا عَمَّا نُرِيدُهُ، أَوْ لَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي لَنَا فِي نِسَائِنَا اللَّوَاتِي تُسَمِّيهِنَّ بَنَاتَكَ مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مَعَهُنَّ، فَلَا مَعْنَى لِعَرْضِكَ إِيَّاهُنَّ عَلَيْنَا لِصَرْفِنَا عَمَّا نُرِيدُهُ {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالذُّكْرَانِ، وَأَنَّنَا لَا نُؤْثِرَ عَلَيْهِ شَيْئًا. أَيْ: تَعْرِفُ ذَلِكَ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَا تَرْتَابُ فِيهِ، فَلِمَ تُحَاوِلُ صَدَّنَا عَنْهُ؟ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى إِرَادَتِهِمْ فَمَاذَا فَعَلَ؟ {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أَيْ: قَالَ لُوطٌ لِأَضْيَافِهِ حِينَئِذٍ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً تُقَاتِلُ مَعِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ وَتَدْفَعُ لَقَاتَلْتُهُمْ، أَوْ أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَلْقَاهُمْ بِهَا، أَوْ قَالَ هَذَا لِقَوْمِهِ، وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: لَوْ قَوِيتُ عَلَيْكُمْ بِنَفْسِي {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} مِنْ أَصْحَابِ الْعَصَبِيَّاتِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ يَحْمُونَ اللَّاجِئِينَ وَيُجِيرُونَ الْمُسْتَجِيرِينَ (كَزُعَمَاءِ الْعَرَبِ) تَمَنَّى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فَيَعْتَزُّ بِهِمْ، وَإِنْ سَمَّاهُمْ قَوْمَهُ بِمَعْنَى أَهْلِ جِوَارِهِ وَوَطَنِهِ الْجَدِيدِ، وَإِنَّمَا هُوَ غَرِيبٌ جَاءَ مَعَ عَمِّهِ مِنْ أَوْرِ الْكَلْدَانِيِّينَ فِي الْعِرَاقِ.
وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَقَدْ رَأَوْا شِدَّةَ كَرْبِهِ وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ حَالُهُ وَهُوَ: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي إِنْجَاءِ لُوطٍ بِأَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ وَإِهْلَاكِ قَوْمِهِ.
{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَرْسَلَنَا لِتَنْجِيَتِكَ مِنْ شَرِّهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} بِسُوءٍ فِي نَفْسِكَ وَلَا فِينَا، وَحِينَئِذٍ طَمَسَ اللهُ أَعْيُنَهُمْ فَلَمْ يَعُودُوا يُبْصِرُونَ لُوطًا وَلَا مَنْ مَعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} 54: 37 فَانْقَلَبُوا عُمْيَانًا يَتَخَبَّطُونَ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} أَيْ: فَاخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْقُرَى مَصْحُوبًا بِأَهْلِكَ بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ تَكْفِي لِتَجَاوُزِ حُدُودِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. وَالسُّرِيُّ (بِالضَّمِّ) وَالْإِسْرَاءِ فِي اللَّيْلِ كَالسَّيْرِ فِي النَّهَارِ، قُرِئَ (أَسْرِ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا مِنْهُمَا حَيْثُ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ. وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 51: 35 و36، {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} إِلَى مَا وَرَاءَهُ لِئَلَّا يَرَى الْعَذَابَ فَيُصِيبَهُ، وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} 15: 65 وَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} وَكَانَتْ كَافِرَةً خَائِنَةً ضِلْعُهَا مَعَ الْقَوْمِ {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} أَيْ مَقْضِيٌّ هَذَا عَلَيْهَا فَهُوَ وَاقِعٌ لَابُدَّ مِنْهُ، قُرِئَ {امْرَأَتَكَ} بالنصب وَبِالرَّفْعِ، {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} أَيْ: مَوْعِدَ عَذَابِهِمْ يَبْتَدِئُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَنْتَهِي بِشُرُوقِهَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} 15: 73 وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلْإِسْرَاءِ بِبَقِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا قُلْنَا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} أَيْ: مَوْعِدٍ قَرِيبٍ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا لَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْجُو فِيهَا بِأَهْلِكَ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَجَوَابٌ عَنِ اسْتِعْجَالِ لُوطٍ لِهَلَاكِهِمْ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مُجْتَمِعِينَ فِيهِ فِي مَسَاكِنِهِمْ فَلَا يَلْفِتْ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أَيْ: عَذَابُنَا أَوْ مَوْعِدُهُ {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أَيْ: قَلَبْنَا أَرْضَ هَا أَوْ قُرَاهَا كُلَّهَا وَخَسَفْنَا بِهَا الْأَرْضَ، وَسُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي خَسْفِ الْأَرْضِ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ أَنْ يُحْدَثَ تَحْتَهَا فَرَاغٌ بِقَدْرِهَا، بِسَبَبِ تَحَوُّلِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي فِي جَوْفِهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَنْقَلِبَ مَا فَوْقَهُ إِمَّا مُسْتَوِيًا وَإِمَّا مَائِلًا إِلَى جَانِبٍ مِنَ الْجَوَانِبِ إِنْ كَانَ الْفَرَاغُ تَحْتَهُ أَوْسَعَ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ عَالِيهَا سَافِلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا؛ أَنَّ مَا كَانَ سَطْحًا لَهَا هَبَطَ وَغَارَ فَكَانَ سَافِلَهَا وَحَلَّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ مِنَ الْيَابِسَةِ الْمُجَاوِرَةِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَرْضِ أَنَّ قُرَى لُوطٍ الَّتِي خُسِفَ بِهَا تَحْتَ الْمَاءِ الْمَعْرُوفِ بِبَحْرِ لُوطٍ أَوْ بُحَيْرَةِ لُوطٍ، وَقِيلَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ أَنَّ الْبَاحِثِينَ عَثَرُوا عَلَى بَعْضِ آثَارِهَا كَمَا تَقَدَّمَ {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} أَيْ: قَبْلَ الْقَلْبِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، وَحِكْمَتُهُ أَنْ يُصِيبَ الشُّذَّاذَ الْمُتَفَرِّقِينَ مِنْ أَهْلِهَا حِجَارَةٌ مِنْ سِجِّيلٍ، وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} 51: 33 فَالْمُرَادُ إِذًا حِجَارَةٌ مِنْ مُسْتَنْقَعٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُهَا حَجَرٌ وَآخِرُهَا طِينٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَصْلُ الْحِجَارَةِ طِينٌ مُتَحَجِّرٌ، وَالْمَعْقُولُ مَا قُلْنَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الرَّاغِبِ: السِّجِّيلُ: حَجَرٌ وَطِينٌ مُخْتَلِطٌ أَصْلُهُ فَارِسِيٌّ فَعُرِّبَ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَصْلُهُ سِجِّينٌ فَأُبْدِلَتْ نُونُهُ لَامًا. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ، فَإِنْ صَحَّ يَكُونُ مِنْ بُرْكَانٍ مِنَ الْبَرَاكِينِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَطَرِ يَحْصُلُ عَادَةً بِإِرْسَالِ اللهِ إِعْصَارًا مِنَ الرِّيحِ يَحْمِلُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمُسْتَنْقَعَاتِ أَوِ الْأَنْهَارِ فَتُلْقِيهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِتَدْبِيرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْأَرْضِ {مَنْضُودٍ} أَيْ مُتَرَاكِبٍ بَعْضُهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ يَقَعُ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} لَهَا سُومَةٌ، أَيْ عَلَامَةٌ خَاصَّةٌ فِي عِلْمِ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَيْ أَمْطَرْنَاهَا خَاصَّةً بِهَا لَا تُصِيبُ غَيْرَ أَهْلِهَا، أَوْ هِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَوَّمْتُ فُلَانًا فِي مَالِي أَوْ فِي الْأَمْرِ إِذَا حَكَّمْتُهُ فِيهِ وَخَلَّيْتُهُ وَمَا يُرِيدُ، لَا تُثْنَى لَهُ يَدٌ فِي تَصَرُّفِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي هَذَا الْمَعْنَى الْآنَ مِنْ مُرَاجَعَةِ مَجَازِ الْأَسَاسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ وَحَكَّمَهَا فِي إِهْلَاكِهِمْ لَا يَمْنَعُهَا مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا قَالَ فِي الْمَلَائِكَةِ الَّتِي أَمَدَّ اللهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: {مُسَوِّمِينَ} 3: 125 وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُسْرِفِينَ أَنَّ هَذَا التَّسْوِيمَ كَانَ حِسِّيًّا بِخُطُوطٍ فِي أَلْوَانِهَا، وَأَمْثَالِ الْخَوَاتِيمِ عَلَيْهَا، أَوْ بِأَسْمَاءِ أَهْلِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ عَنِ الْمَعْصُومِ وَلَا نَصَّ، وَمَا قُلْنَاهُ مَفْهُومٌ مِنَ اللَّفْظِ، وَمَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ فِيهِ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ.
{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} أَيْ وَمَا هَذِهِ الْعُقُوبَةُ أَوِ الْقُرَى أَوِ الْأَرْضُ الَّتِي حَلَّ بِهَا الْعَذَابُ الْمُخْزِي بِمَكَانٍ بَعِيدِ الْمَسَافَةِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِكَ وَالتَّمَّارِي بِنُذُرِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، بَلْ هِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ وَاقِعَةٌ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي رِحْلَةِ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقَيْنِ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرَنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} 15: 73- 76 أَيْ فِي طَرِيقٍ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَعْدَ ذِكْرِ هَلَاكِهِمْ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 37: 137 و138 قَالَ الْجَلَالَ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} عَلَى آثَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي أَسْفَارِكُمْ {مُصْبِحِينَ} أَيْ: وَقْتَ الصَّبَاحِ، يَعْنِي بِالنَّهَارِ {وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} مَا حَلَّ بِهِمْ فَتَعْتَبِرُوا بِهِ. انْتَهَى.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِفَةِ الظَّالِمِينَ وَكَوْنِ الْعُقُوبَةِ آيَةً مُرَادَةً لَا مُصَادِفَةً، يَجْعَلُ الْعِبَارَةَ عِبْرَةً لِكُلِّ الْأَقْوَامِ الظَّالِمَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَذَابُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَكَثْرَتِهِ وَعُمُومِهِ وَمَا دُونَهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ أَنَّ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ لَيْسَتْ بِبَعِيدَةٍ مِنَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَلْ نَزَلَتْ بِهِمْ عَنِ اسْتِحْقَاقٍ، أَوْ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَقَدَّمَ هَذَا مَنْ قَدَّمَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَخَّرَ مَا قُلْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي تُؤَيِّدُهُ شَوَاهِدُ الْقُرْآنِ.
وَفِي خُرَافَاتِ الْمُفَسِّرِينَ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَلَعَهَا مِنْ تُخُومِ الْأَرْضِ بِجَنَاحِهِ، وَصَعِدَ بِهَا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ أَصْوَاتَ الْكِلَابِ وَالدَّجَاجِ فِيهَا، ثُمَّ قَلَبَهَا قَلْبًا مُسْتَوِيًا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَهَذَا تَصَوُّرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ مُتَصَوِّرِهِ أَنَّ الْأَجْرَامَ الْمَأْهُولَةَ بِالسُّكَّانِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَيَبْقَوْنَ أَحْيَاءً. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ الْفِعْلِيِّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الَّتِي نَكْتُبُ هَذَا فِيهَا، أَنَّ الطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدَ الَّتِي تُحَلِّقُ فِي الْجَوِّ تَصِلُ إِلَى حَيْثُ يَخِفُّ ضَغْطُ الْهَوَاءِ وَيَسْتَحِيلُ حَيَاةُ النَّاسِ فِيهَا، وَهُمْ يَصْنَعُونَ أَنْوَاعًا مِنْهَا يَضَعُونَ فِيهَا مِنْ أُوكْسِجِينِ الْهَوَاءِ مَا يَكْفِي اسْتِنْشَاقُهُ وَتَنَفُّسُهُ لِلْحَيَاةِ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ الْعُلْيَا وَيَصْعَدُونَ فِيهَا، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إِلَى مَا يَكُونُ لِلتَّصْعِيدِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي ضِيقِ الصَّدْرِ مِنْ عُسْرِ التَّنَفُّسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 6: 125.